فرانسوا بُوشيه
(1703 - 1770)
لم يكن بوشيه فناناً ورعاً يعبأ بالعقيدة الدينية أو يتطلّع إلى رؤى الفردوس، كما اطـّرح جانباً تصوير البطولات. وشأنه شأن معظم مصوّري القرن الثامن عشر الفرنسيين لم يستنبط أسلوباً مميّزاً للوحاته الدينية على الإطلاق إذ لم يكن بتكوينه وبطبيعته مهيّـأ لهذا النمط من التصوير (لوحة 64). وحين سـُئـل العلامة ديدرو في صالون باريس عام 1765 عن رأيه في عذراوات بوشيه ردّ بقوله: "هن صبايا لطيفات ماجنات"، ولكن على الرغم من أن ديدرو قد قسا على بوشيه بالنقد الجارح دون شفقة إلا أنه كان مدركاً كل الإدراك لقدراته، بل لقد شدّته بعض صوره فعلّق عليها قائلاً: "إن هذه الصور وإن كانت تمثّل الرذيلة، لكنها رذيلة سائغة ممتعة. إن هذا الرجل يمتلك ناصية كل شيء... إلا الحقيقة". وهكذا كان غضب ديدرو إزاء الانحلال والافتقار إلى إدراك روعة الطبيعة ينقشع أمام سحر رائعات بوشيه وعالمه الأنثوي الأسطوري الأيسر إدراكاً من عالم تييبولو. فبوشيه لا يحفل - شأن تييبولو - بإثارة دهشة المتطلّع إلى لوحاته بل إن سحر لوحاته الأخّاذ يستخفي، إذ ينطوي أسلوبه على استدراج بطيء للحواس، وعلى إيقاع رفيق مُهَدْهِد. ونادراً ما تضم لوحاته رجالاً، إذ لم يعبأ بوشيه بتصويرهم، غير أن هذا لا يعني أنه كان أسير عالم العبث والمجون دون غيره. ومع ذلك فما من شك في أن بوشيه قد اتخذ نموذج تييبولو نبراساً يهتدي به لاسيما أنه كان شديد الإعجاب بأعماله التي شاهدها أثناء زيارته لإيطاليا قبل عام 1730. ومن المحقق أنه كان – شأنه شأن غيره من الفرنسيين - يقتني بعض رسوم تييبولو الذي كان يستقي نماذجه بدوره من رائعات المصورين الإيطاليين القدامى وعلى رأسهم فيرونيزي الذي كثيراً ما كان يضاهي به، وإن كانا جدّ مختلفين.
عُني بوشيه حتى عام 1750 بتصوير الموضوعات الأسطورية التي كانت صوراً زخرفية محكمة بالغة الإتقان تسري في ثناياها شاعرية هامسة تفرّد بها، معبّرة عن الحنين والتوجّع، هائمة فيما هو بعيد المنال، كما هي الحال في لوحة أورورا ربّـة (20) كان كيفالوس قد تزوج من بروكريس الفاتنة بعد أن وقع في غرامها، وكان قد اعتاد أن ينصب شباكه صباحاً لصيد الوعول وإذا ربّة الفجر أورورا التي كان نورها الزعفراني قد قشع الظلمة تستولي على لبه. فقد كانت ربة الحدّ الفاصل بين الليل والنهار خلابة الحسن وردية الشفتين، غير أنه كان في الوقت نفسه يعشق بروكريس التي كانت تحيا في قلبه ولا ينطق لسانه بغير اسمها، فذكر الربّة بمواثيق الزوجية التي تقيده وإذا الإلهة تمتلئ حقداً قائلة: "كف عن هذا التولّه أيّها الناكر للجميل واحفظ عليك زوجك. وإذا قدّر لي أن أرى المستقبل جليّاً فإنك سوف تكون من النادمين إن أبقيت عليها". كان سعيداً بزوجته وكانت هي الأخرى سعيدة به. كان كلاهما يحب الآخر حتى أنها ما كانت تؤثر على الزواج منه الزواج من جوبيتر، وما كان ليقع في غرام امرأة أخرى ولو كانت فينوس نفسها. كان يخرج كل صباح إلى الغابة للصيد مع الخيوط الأولى للشمس المتسللة إلى قمم التلال، وكان من عادته أن يسترسل في الغناء فيردد: "أقبلي أيتها الأنسام وامنحيني السعادة. إن فمي أظمأ ما يكون للارتواء من أنفاسك.." ولقد وقعت هذه الكلمات الغامضة في أذن من أساء فهمها فتصور أن كلمة "أنسام" التي يرددها هي اسم إحدى الحوريات التي وقع كيفالوس في غرامها، فأسر إلى بروكريس بما سمعه فأخذت تندب حظها وظلم القدر وخيانة زوجها لها، لكنها رفضت أن تصدق الواشي إلا إذا رأت خطيئة زوجها بعينها. وفي صباح اليوم التالي حين بدد الفجر ظلمة الليل قصد كيفالوس الغابة حتى إذا ما انتهى من الصيد اضطجع على العشب وأخذ يردد منشداً "تعالي يا أنسام، تعالي مهجة قلبي" وخيل إليه أنه يستمع إلى أنات تتردد كالصدى في إثر كلماته، وسمع حفيف أوراق تسقط فظن أن وحشاً يقبل فأطلق رمحه فإذا بروكريس وقد أصابها الرمح في صدرها، فحملها بين ذراعيه في رفق واستحلفها ألا تموت وتتركه يعاني بعدها من جريمة مقتلها، فإذا هي تناشده وهي تحتضر ألا يسمح "للأنسام أن تغدو له زوجاً بعدها". وعندما أدرك كيفالوس أن هذا الاسم هو الذي جرها إلى ذلك الخطأ، كشف لها عن الحقيقة، غير أن ذلك لم يجد نفعاً "انظر: مسخ الكائنات للشاعر أوفيد. ترجمة كاتب هذه السطور. الطبعة الرابعة أو الخامسة 1997 الكتاب السابع 660- 860. الهيئة المصرية العامة للكتاب. الفجر وكيفالوس(20) كان كيفالوس قد تزوج من بروكريس الفاتنة بعد أن وقع في غرامها، وكان قد اعتاد أن ينصب شباكه صباحاً لصيد الوعول وإذا ربّة الفجر أورورا التي كان نورها الزعفراني قد قشع الظلمة تستولي على لبه. فقد كانت ربة الحدّ الفاصل بين الليل والنهار خلابة الحسن وردية الشفتين، غير أنه كان في الوقت نفسه يعشق بروكريس التي كانت تحيا في قلبه ولا ينطق لسانه بغير اسمها، فذكر الربّة بمواثيق الزوجية التي تقيده وإذا الإلهة تمتلئ حقداً قائلة: "كف عن هذا التولّه أيّها الناكر للجميل واحفظ عليك زوجك. وإذا قدّر لي أن أرى المستقبل جليّاً فإنك سوف تكون من النادمين إن أبقيت عليها". كان سعيداً بزوجته وكانت هي الأخرى سعيدة به. كان كلاهما يحب الآخر حتى أنها ما كانت تؤثر على الزواج منه الزواج من جوبيتر، وما كان ليقع في غرام امرأة أخرى ولو كانت فينوس نفسها. كان يخرج كل صباح إلى الغابة للصيد مع الخيوط الأولى للشمس المتسللة إلى قمم التلال، وكان من عادته أن يسترسل في الغناء فيردد: "أقبلي أيتها الأنسام وامنحيني السعادة. إن فمي أظمأ ما يكون للارتواء من أنفاسك.." ولقد وقعت هذه الكلمات الغامضة في أذن من أساء فهمها فتصور أن كلمة "أنسام" التي يرددها هي اسم إحدى الحوريات التي وقع كيفالوس في غرامها، فأسر إلى بروكريس بما سمعه فأخذت تندب حظها وظلم القدر وخيانة زوجها لها، لكنها رفضت أن تصدق الواشي إلا إذا رأت خطيئة زوجها بعينها. وفي صباح اليوم التالي حين بدد الفجر ظلمة الليل قصد كيفالوس الغابة حتى إذا ما انتهى من الصيد اضطجع على العشب وأخذ يردد منشداً "تعالي يا أنسام، تعالي مهجة قلبي" وخيل إليه أنه يستمع إلى أنات تتردد كالصدى في إثر كلماته، وسمع حفيف أوراق تسقط فظن أن وحشاً يقبل فأطلق رمحه فإذا بروكريس وقد أصابها الرمح في صدرها، فحملها بين ذراعيه في رفق واستحلفها ألا تموت وتتركه يعاني بعدها من جريمة مقتلها، فإذا هي تناشده وهي تحتضر ألا يسمح "للأنسام أن تغدو له زوجاً بعدها". وعندما أدرك كيفالوس أن هذا الاسم هو الذي جرها إلى ذلك الخطأ، كشف لها عن الحقيقة، غير أن ذلك لم يجد نفعاً "انظر: مسخ الكائنات للشاعر أوفيد. ترجمة كاتب هذه السطور. الطبعة الرابعة أو الخامسة 1997 الكتاب السابع 660- 860. الهيئة المصرية العامة للكتاب. (لوحة 65). ولم تكن المرأة العارية بعدُ الذريعة التي من أجلها صوّر اللوحة، فثمة نسق لوني يسبغ ضوء الفجر الخافت الوليد على التكوين الفني كله، حيث يتطلّع كيفالوس - البشر الفاني - إلى ربـّـة الفجر بلا أمل، تحت سماء مغشّـاة باللون الأصفر الباهت يدفئها اللون الوردي للشمس البازغة. والصورة مترعة بلوعة الفراق الوشيك، وبالتغيير المتمثّل في الفجر وقد بدد ظلمة الليل، بينما كلاب الصيد تتوق إلى الطّراد والخيل المخلّدة لمركبة الشمس الإلهية تتأهّـب للانطلاق والتحليق. كما تذكـّرنا وِلدان الحب اللطيفة والثياب ذوات الطوايا واللمحات النفسية المتحوّلة بصور فاتو الأسطورية المبكرة، غير أن بوشيه لم يـُطل التوقّف عند هذا اللون الشاعري من التصوير. وعلى غرار تييبولو كان فناناً مطيعاً لرعاته، فإذ هو يُخـْـضع مواهبه لأذواقهم، فيُقيّد قدراته على الابتكار، وإن كان تييبولو قد احتفظ بقدر أكبر من استقلاليته. كذلك أدّى قصوره عن إحكام البناء إلى خلو لوحاته من الرسوم المعمارية، كما يندر أن تقدّم لوحاته تكوينات فنية منفصلة عن العلاقات بين الأجساد الأنثوية في أمامية الصورة، فالأشجار شأنها شأن السّحب، والسّحب شأنها شأن الطير تتجمّع وتتحلّـق كي تملأ فراغ الصورة دونما اتحاد معها. وإذ افتقد بوشيه الأسلوب الذي فطر عليه تييبولو انبرى يعبّر عن نفسه بأسلوب رهيف رقيق شديد الجاذبية مستغرق في الحسية إلى أبعد الحدود، فإذا هو يُعرّي نساء تييبولو الفاترات تعرية تامة ويبعث فيهن سخونة الرغبة ونظرات الشبق اللاهبة. وعلى حين يعجّ مسرح صوره بالشجيرات الدخيلة، يكمن سحر الصورة في الأجساد العارية والأكسية التي تـُـبرز جمال هذه الأجساد، وفي ملمس البَـشَـرات الذي يعكسه الطلاء اللوني ببراعة. وفي هذا السياق المتفرّد قدّم بوشيه أكثر أعماله المترعة بالحيوية والتي تزداد كمالاً كلما صَغـُـر مقياسها.
كذلك وجد عالَم "الأزياء" خير نصير له في فرشاة بوشيه، فلوحة "تاجرة الثياب" (لوحة 66) تعبّر بواقعية عن الحياة الأرستقراطية خلال تلك المرحلة وتنقل بوضوح بنيانها ولطف نسيجها ودفء ألوانها، تلك المتع التي تجعل هذا اللون من الحياة أمنية منشودة، فتبدو السيدة في غرفة مؤثّـثة وفق طراز لويس الخامس عشر بعد أن صفّـف الحلّاق شعرها تنتقي من صندوق البائعة شريطاً يناسب زينتها. وتتجلّـى الإثارة الحسيّة بصورة أكثر واقعية في أعمال بوشيه منها في أعمال تييبولو، كما تخلو من الشّجن المسيطر على أعمال فاتو، إذ تنبني أعماله ببساطة على إمتاع الحواس مع الحرص على تجنّب الإباحية المباشرة، على النهج الذي تحمله لوحة "انتصار فينوس" (لوحة 67). وهذا هو جوهر أسلوب بوشيه الذي يمزج فيه الطبيعي بالمصطنع ليقدّم مشاهد ساحرة تفيض حيوية ومرحاً، مفعمة بالأحاسيس الجيّاشة وبروح العالم الكلاسيكي الوثني، بل إن المياه الخُضر تغدو في لوحاته عنصراً حسياً تعلو صفحتها وتهبط، بينما تتمدّد على سطحها أجساد أنثوية لدنة ذوات بشرات لؤلؤية باهته تنساب مع المياه وتستعرض أطرافها محاكية شعاب المرجان وكأنما هي أعشاش مهيّـأة لاستقبال يمامات فينوس. وإلى جوار الدلافين المتواثبة والتريتونات المتدافعة والأمواج الصاخبة وولدان الحب المحلّـقة المتعلقة بوشاح يهوّم في الفضاء في لون السماء تتخلّـله خطوط بنية، تبدو الإلهات كواعب شقراوات ممشوقات خـَـفِـرات فاتنات يسلبن الألباب على استحياء، وهن على غرار الحوريات من حولهن يمثّـلن الواقع ويشكّـلن خطوط اللوحة الأرابيسكية المنغّـمة المتأوّدة. ولقد أضفى بوشيه على هذه اللوحة التي تعدّ أعظم لوحاته الزخرفية تباينات مثيرة، تتجلّـى في سمة الكمال الإلهي التي خلعها على شخوص الإلهات وسط فراغ يوحي بالحسّية والإثارة. وتبدو لنا الربّات مشتهاة مرغوبات، لكنهن في الوقت عينه تتراءين لنا مجرّدات من "الرغبة" بما يحفظ عليهن نقاءهن وربوبيّتهن.
لقد اقترب بوشيه من واقع الحياة أكثر مما اقترب تييبولو، واقتصر ما يـُـضفيه من مثالية على تجميل السيقان والرُّكب والسواعد والمعاصم والحواجب وطلاء الشفاة وحلمات الأثداء بلون أحمر قان على نحو ما يتراءى في لوحات داناي (لوحة 68)، وديانا تأخذ في زينتها (لوحة 69)، وليدا وطائر البجع (لوحة 70). وقد يحقّ لنا أن نعدّ أسلوب بوشيه وتييبولو متأثـّـراً إلى حد ما بفن النحت، وبينما يجنح بوشيه إلى منحوتات فالكونيه وكلوديون ينحاز تييبولو إلى منحوتات الروكوكو البافاري المترع بالتذهيب واللون الأحمر القاني.
ويأتي على رأس أعمال بوشيه لوحة "ديانا الصيّادة تتأهّب لأخذ حمّامها" (لوحة 71) حيث نرى الإلهة تستريح بعد عناء، وإلى جوارها غنيمة الصيد وقوسها وكنانة سهامها وتابعاتها. وهي جميعاً عناصر تواكب "إيقونوغرافية(21)Iconography هي قائمة الموضوعات التي تعنى بها حضارة من الحضارات أو يشغل بها عهد من العهود أو يعالجها فنان من الفنانين، ومن ثم فهي تختلف عن قائمة المنجزات التي تشمل عدد الصور والمنحوتات أو الأعمال الفنية التي تمت خلال حضارة من الحضارات أو عهد من العهود أو بواسطة فنان معين. وهي أيضاً كل ما يختص بموضوع فني مصوّر تصنيفاً ووصفاًَ "م. م. م. ث". " الإلهة ديانا التقليدية منذ القرن السادس عشر، مما يؤيّد الرأي القائل بأن الموضوعات الأسطورية خلال القرن الثامن عشر ظلّت كما كانت خلال القرن السادس عشر ذريعة لتصوير الأجساد الفاتنة وسط جمال الطبيعة الخضراء. وحين عرضت هذه اللوحة في صالون باريس عام 1742 استُـقبلت بحفاوة بالغة، فلقد توافقت تماماً مع ذوق الجمهور الباريسي المرهف الحسِّ المدرك للفروق اللونية الدقيقة والمفتون باللوحات الجريئة الصغيرة الحجم ذوات الأطر الخشبية المحفورة المطلية بألوان متألقة. وما من شك في أن هذه اللوحة المنطوية على سحر بالغ وعلى أشدّ الألوان حسّية تستحق عن جدارة ما وُصفت به بأنها المثل الأعلى لطراز لويس الخامس عشر التصويري.
وقد جاءت مناظر بوشيه البريّة والرعوية المصنّفة ضمن إبداعاته "الروكوكوية" مصطنعة وإن استوحاها عن الواقع، غير أنه نزع إلى التخلّص من العناصر المتعلقة بالملوك والحكـّـام أو بالميثولوجيا، فقدّم لنا مشاهد مسرحية دون شخوص - وإن تخلّلها بضع ممثلين من المزارعين أو الرعاة - لكي يتسنّى له رسم الطبيعة عارية عُري الأجساد الآدمية، على نحو ما جرّد فينوس وديانا وأترابهن من الثياب، فتبدو مناظره الطبيعية وكأنها حلم ريفي ينطوي على طبيعة هادئة من سندس ناعم أملس وأشجار زرق وسماء حريرية شاحبة، أضاف إليه بضع أكواخ هنا وبعض طواحين المياه هناك، وبضع طيور هنا وبعض الحيوان هناك، مبدعاً بذلك مَناخاً أركادياً ساحراً مفعماً بالطمأنينة والسكينة يَبُـزُّ الواقع جمالاً مثل لوحة "الطاحونة" (لوحة 72) مستلهماً ما يقع عليه بصره من مشاهد "الإيل ده فرانس" دون أن يحاكيها تماماً، وأغلبها تكوينات زخرفية تأثّر فيها بصور المناظر الطبيعية الهولندية للفنان هوبيما وغيره، لكنها جاءت على غرار أسلوب النسجيّات المرسّمة.
ومنذ عام 1750 انصرف بوشيه عن تصوير لوحاته صغيرة الحجم إلّا في أضيق الحدود مؤثراً إعداد كرتونات (22) Cartoon الرسم التمهيدي أو المسودة أو الكرتونة، وهو الرسم التمهيدي المجمل الذي يخط على الورق المقوى لكي يتخذه الفنان مرجعاً ينقل عنه لوحته المصورة أو نسجيته المرسمة أو لوحات الفسيفساء أو الزجاج المعشق، وهو ما يسمى الآن "الكرتونة". ويطلق هذا المصطلح أيضاً على الرسوم الهزلية الساخرة "م. م. م. ث". النسجيّات المرسّمة لمصانع جوبلان إذ كانت تتفق ومواهبه الزخرفية. وكانت السنوات الثمان الأخيرة من حياة بوشيه سنوات جدب فني، فلقد ماتت مدام ده بومبادور أعظم رعاة بوشيه في عام 1764، فضلاً عن أن قواه قد أصابها الوهن. وعلى الرغم من أنه ظلّ يعرض لوحاته في صالون باريس إلا أن الهجوم الساخر الشرس الذي شنّه ديدرو عليه أصابه بالإحباط. وسواء أدرك هو أو تييبولو أفول نجميهما أم لم يدركا فإن عهدهما كان قد ولى إذ تم خلعهما عن عرشهما قبل أن يختطفهما الموت.
وكما برع بوشيه في تصوير المشاهد اليومية الحميمة مثل مشهد أسرة باريسية بورجوازية تتناول إفطارها وقهوة الصباح في حجرة مؤثثة وفق طراز لويس الخامس عشر (لوحة 73)، تألّق بالمثل في رسم بورتريهات السيدات، إلا أنه لم يكن يحفل كثيراً بتسجيل شخصية صاحبة البورتريه بقدر ما كان يهتم بتفاصيل ثيابها والزخارف المحيطة بها بدقّة لا تبارى، تشهد بها بورتريهاته لمدام ده بومبادور؛ فتارة يصوّرها وهي تطالع كتاب ممسكة بقبعتها قبل أن تمضي في رياضة المشي اليومية وسط خلفية شبه ريفية، وتارة يصورها جالسة إلى خميلة خضراء تجلّلها الورود وبين يديها وفوق حجرها كتاب مفتوح مستندة بساعدها اليسرى على كومة كتب (لوحة 74)، وتارة أخرى يسبغ التآلف المذهل على درجات اللون البيج الوردي لثوبها الأنيق غير غافل عن تصوير "فيونكات" الصدر وكرانيش الكمّين ومخرمات [دانتيل] حواف الثوب وطوق العنق والورود التي ترصّع أنحاء الثوب في محاكاة مع الورود الطبيعية في الخميلة المجاورة، وقد استندت بساعدها اليمنى على قاعدة تمثال لأم ترضع أطفالها ممسكة بمروحة وأمامها جروها المدلّل يتطلّع إليها من فوق مقعد (لوحة 75). وكان بوشيه قد شرع في تصوير مدام ده بومبادور عام 1758 عندما كانت في أوج حظوتها لدى الملك لويس الخامس عشر وتأثيرها عليه، ذلك التأثير الذي استمر عشرين عاماً، معبراً في بورتريهاته لها عن كياستها ولباقتها وذكائها اللمّاح وسحرها الآسر الذي كان له أكبر الفضل في جعل قصر فرساي المركز الحضاري الأول في أوربا، إذ كانت على دراية واسعة بفنون الموسيقى، وصديقة لكبار الكتّـاب والأدباء مثل مونتسكيو وفولتير، كما عُـنيت عناية خاصة بالمسرح والفنون التشكيلية، ورَعَتْ مصنع سيفر للبورسلين ومصنع جوبلان للنسجيّات المرسّمة، واقتنت اللوحات المصوّرة والمنحوتات النادرة وفاخر الأثاث ونفيس الجواهر وأرقى مشغولات الخزف. موجز القول إنها خلقت مناخاً غدا الفن معه ضرورة لا غنى عنها، وذلك من خلال ذوقها الرفيع فيما يتصل بطراز الروكوكو الذي بلغ الذروة برعايتها وإشرافها. وكان بوشيه هو فنانها الأثير الذي ظهر في نهاية طراز الباروك، ذلك الطراز الذي بدأت إرهاصاته خلال القرن السادس عشر بالبندقية، واستمر حتى بلغ ذروته على يد تييبولو، ورقـّـته الشاعرية على يد فاتو. وإذا كان بوشيه أقصر منهما قامة فنياً إلّا أنه كان ابن عصره، إذ كان شديد البراعة في الجمع بين النفاق والحقيقة، كما كان متمكّناً من تصوير الشخوص الحقيقية والتعبير عن عواطفهم في غلالة من الرقّـة واللُّـطف، وتجسيد الإثارة دون تجاوز مفرط لأعراف المجتمع. ومسايرة لعصره انكفأ بوشيه يصوّر لوحات محاكية لطراز الفن الصيني Chinoiserie وفق البدعة الشائعة وقتذاك، نعرض من بينها لوحة للحياة في بيت صيني (لوحة 76) وأخرى لعقد قران بين عروسين صينيين (لوحة 77)، وهما لوحتان من تسع لوحات أعدّها بوشيه للاستنساخ في نسجـيّات مرسّمة بمصانع بوفيه لتزيين مقرّ مدام ده بومبادور.
انتظر مشاركتكم
(( تم رفع الصورة مرة أخرى على سيرفر الموقع # الإدارة # )
Bookmarks